فمدينة القنيطرة -حلاّلة- قبل ارتباطها بمينائها النهري ارتبطت بالقصبة التي شيدّت بأمر من السلطان عبد العزيز وانتهت الأشغال بها سنة 1895. وكان أول مسؤول مخزني عُيِّن على رأسها أحد القوّاد البارزين منذ عهد السلطان الحسن الأول، وهو الملقب بالمعطي المدني. وقد أقام السلطان عبد العزيز القصبة لإستتباب الأمن بالمنطقة وتأمين الطريق إلى العاصمة فاس. وفي غضون سنة 1911 نزلت القوات الفرنسية بالمهدية تنفيذا للحملة التي استهدفت الاستيلاء على العاصمة فاس وإجبار السلطان على توقيع معاهدة الحماية. وبعد النزول اتخدت القوات الفرنسية قصبة المهدية كمركز لها. وكانت المهدية نقطة نزول اعتبارا لقربها من مدينة فاس. وكان آنذاك على رأس تلك القوّات الجنرال موانيي. لكن سرعان ما ضاق ميناء المهد ية بقوات وعتاد الاستعمار الفرنسي، لذلك تم التفكير في إقامة ميناء آخر. وبعد دراسة مستفيضة وقع الاختيار على مكان بضفة نهر سبو قريبا جدّا من القصبة (القنيطرة حاليا) التي شيدها السلطان عبد العزيز. وهذا إن كان يدل على شيء فإنّه يدل على أن القنيطرة ذات عمق تاريخي خلافا لطالما ادعته الأبواق الاستعمارية الفرنسية منها وغير الفرنسية. وفي البداية (1912 ) لم يكن الميناء النهري مفتوحا إلاّ في وجه الملاحة العسكرية. وبعد سنة تم فتحه للملاحة التجارية عندما اتخذ الجنرال ليوطي القرارات الثلاث الحاسمة في تاريخ البلاد:
-نقل عاصمة البلاد من مدينة فاس إلى مدينة الرباط
-إنشاء قطب اقتصادي بالدار البيضاء
-إحداث قطبين مكملين لقطب الدار البيضاء وهما المحمدية والقنيطرة.
وفي إطار إعادة الهيكلة هاته أولى الجنرال ليوطي أهمية بالغة لميناء القنيطرة باعتباره بوابة لفاس ومكناس ونواحيهما وباعتباره ضرورة اقتصادية وجيوسياسية لمنطقة الغرب وكآلية جوهرية لنهب الخيرات وترسيخ التبعية للمُستعمر.وفي سنة 1915 صادقت الاقامة العامة على تصميم التهيئة الحضرية لمدينة القنيطرة وهوالتصميم الذي استهدف تنظيم المجال بعاصمة الغرب. وبحلول سنة 1926 تم تكوين أول مجلس بلدي. وكان هذا المجلس، إضافة للأغلبية الأوربية، مكوّن من 7 مغاربة من ضمنهم 6 مسلمين ويهودي، إلاّ أن عمله كان صوريا باعتبار أن زمام كل الأمور ودواليب اتخاذ القرار كانت بيد المراقب وأعوانه وبيادقه من المغاربة وغير المغاربة. وفي يوم 10 يوليوز 1932 قررت السلطات الاستعمارية إطلاق إسم ميناء ليوطي على مدينة القنيطرة. وشُرِع في استعماله في الوثائق الرسمية وطوابع البريد والبطائق. إلاّ أن ساكنة حلاّلة رفضوا هذه التسمية الاستعمارية وظلوا يحرصون على تداول إسم القنيطرة. وعرفت منطقة الغرب أبرز تجليات الاستعمار الفلاحي، حيث عمل المعمرون على الاستيلاء على الاراضي الفلاحية بسهل الغرب بمختلف الوسائل، بدءا بشرائها من المغاربة بأثمنة بخسة واستعمال القمع والتهديد والترهيب ونزع الأراضي بالحديد والنار واعتماد تفعيل قانون نزع الملكية. وقد بلغ هذا السطو ذروته في بداية ثلاثينات القرن الماضي، علما أنّه منذ 31 غشت 1914 عملت السلطات الاستعمارية على إصدار ظهير يسهل نزع ملكية الاراضي الفلاحية من المغاربة لأجل المصلحة العامة (مصلحة الاستعمار والمعمرين آنذاك). وتلى ذلك صدور مراسيم في سنة 1927 لخدمة نفس الغاية. كما عمدت السلطات الفرنسية وبدهاء إلى إغراق الفلاح المغربي بالديون وتوريطه قصد جعله يعجز عن تسديدها، وبذلك تتأتى كل الشروط المواتية لتجريده من أرضه غصبا عنه. واعتبارا للنمو السريع الذي عرفته مدينة القنيطرة منذ فجر ثلاثينات القرن الماضي وتناسل إحداث جملة من الوحدات الانتاجية موازاة مع تطور الميناء، كان من الضروري جلب يد عاملة إلى المدينة، وهكذا عاينت القنيطرة نشأة طبقتها العاملة. ولقد سجل التاريخ الدور الطلائعي لعمال حلاّلة من أجل تطبيق قانون الشغل آنذاك وتحسين أوضاع الشغيلة، كما شكل عمال المدينة ركيزة أساسية للحركة الفدائية فيما بين 1953 و1956. علما أنه قبل الاستقلال لم تكن هناك نقابة مغربية، بل كانت نقابات تابعة للنظام الاستعماري تضم الفرنسيين والاجانب بما فيهم الجزائريين وقلّة قليلة من المغاربة، باعتبار أن الانخراط فيها كان محظورا عليهم إلى حدود سنة 1943 إذ بعدها غضت السلطات الاستعمارية الطرف. ولم تتأسس بورصة الشغل بمدينة القنيطرة إلاّ في أواخر سنة 1955. وحال إنشائها إلتحق بها العمال المغاربة أما الاتحاد العام للشغالين فلم يشرع في العمل إلا بعد الاستقلال في ستينات القرن الماضي. إذن قد تأكدت أهمية القنيطرة بالنسبة للاستعمار الفرنسي ونظام الحماية منذ 1915. آنذاك تم تقسيمها إلى ثلاث مجالات:
*مجال خاص بالأوربيين
*مجال خاص بالمغاربة، الأهالي في عرف الاستعمار الذي كان يعتبرهم أقل شأنا ودرجة من الفرنسيين والأجانب.
*وبين هاذين المجالين أُقيم الحي العسكري للعزل بينهما لحماية الأول ومراقبة الثاني.
وقد عمل نظام الحماية على جعل القنيطرة كواجهة لعرض أطروحته، الأكذوبة القائلة أنه جاء للمغرب ليس للنهب والسيطرة وإذلال الانسان واستغلال سكان البلاد ونهب خيراتها وإنما جاء لنشر الحضارة و إرساء التمدن وللقيام بالبناء والتشييد، أي لإقامة الصرح الحضاري كما كان يحلو لدهاقنة الاستعمار قوله. لذلك كان لزاما على الفرنسيين اعتبارا لدوافع ايديولوجية استعمارية-توسعية محضة أن يروجوا للأطروحة القائلة أن القنيطرة لم تكن موجودة وإنما هي من صنع فرنسا من العدم ومع الأسف هذا ما روّجه كذلك جملة من المغاربة إلى عهد قريب. كيف لا وأن دهاقنة الاستعمار رغِبوا في درّ الرماد على أعين الرأي العام الفرنسي المُندد باحتلال المغرب واستبعاد ساكنته. وبالضبط لهذا الغرض عمل هؤلاء الدهاقنة على استبدال إسم القنيطرة باسم ميناء ليوطي سنة 1932. ولم تكن مفاجأة ومدعاة للاستغراب أن يتأسس أول حزب يميني متطرف (صليب النار) بالقنيطرة التي كانت ركحا لمعارك بين المتطرفين والليبراليين أكثر من أي مدينة أخرى بالبلاد.
وكل هذا لم يقو على إخفاء الأهمية التاريخية الأكيدة للقنيطرة الأصلية، القنيطرة الوطنية والشعبية في تاريخ المغرب منذ السنوات الأولى للاستعمار بالبلاد. لقد ظل إسمها حاضرا وبامتياز في مختلف المحطات والأحداث والقرارات التي صهرت تاريخ المغرب الحديث رغم أن أغلب كتّاب هذا التاريخ حاولوا جاهدين تهميشها تاريخيا لغرض في نفس يعقوب. ففي واقع الأمر تفطنت الحركة الوطنية مبكّرا للمكيدة الاستعمارية الساعية لتحويل مدينة القنيطرة إلى وكر للايديولوجية الاستعمارية وللمعمرين المتطرفين، لذلك شجعت الهجرة المكثفة إليها. وللتصدي لهذا المخطط عملت على تحفيز المغاربة في مختلف مدن وجهات المغرب للهجرة إلى القنيطرة. وفعلا تم الامتثال لهذه الدعوة الوطنية، حيث توافد على المدينة مغاربة من كل أصقاع المغرب، وتآلفوا فيما بينهم عبر الزاوية والمسجد والمدرسة والجمعيات والنوادي الرياضية وغيرها. وكانت هذه الاستراتيجية بمثابة خطوة جوهرية على درب إفشال مخططات نظام الحماية ليس بمنطقة الغرب وعاصمته القنيطرة فحسب وإنما بالمغرب كافة. وهذا ما يفسر تجدر الحركة الوطنية مبكرا بالقنيطرة ومنذ رعيلها الأول. وبذلك ظلت القنيطرة حاضرة بامتياز في تاريخ المغرب الحديث حضورا وطنيا ونضاليا وكفاحيا منذ 1915، حيث استغل أبناء حلاّلة الانفتاح الليبرالي الظاهري لتوسيع قاعدة الحركة الوطنية بالمدينة. آنذاك عاينت القنيطرة حملة واسعة لأداء اليمين للتعهد على النضال المستميت، كما احتضنت حركية إنشاء جمعية الكشفية والجمعية الخيرية والجمعيات والفرق الرياضية وجمعية منكوبي الحريق وغيرها... وقد شكلت هذه الحركية الارضية الصلبة لإنطلاق النضالات وتفجير المظاهرات الشعبية إلى أن اضطر أبناء حلاّلة، لاسيما شباب ديور ضياك والمدينة القديمة والدوار والبوشتيين ديور المخزن وغيرها من الأحياء الشعبية إلى الشروع في الكفاح المسلح والمواجهة المباشرة والعلنية للاستعمار رغم قوّة عتاده وجيوشه وعملائه.