الصهيونية وحركة "التاريخ الجديد"
[ 17/02/2007 - 06:49 ص ]
د. عبد الوهاب المسيري
"المؤرخون الجدد" هم مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين الذين أخذوا في الظهور منذ الثمانينيات وبدأوا في مراجعة الرواية الأكاديمية الإسرائيلية للصراع العربي- الصهيوني، وبخاصة حرب 1948 التي جرى صوغها ضمن إطار أيديولوجي صهيوني يعيد ترتيب الوقائع، واستبعاد ما لا يروق للصهاينة. فالرواية الإسرائيلية الصهيونية لوقائع حرب 1948 وما بعدها تحاول بقدر الإمكان عدم ذكر الفلسطينيين، فلا توجد جماعة فلسطينية قائمة بذاتها (ومن هنا الإكثار من ذكر البدو) بعد 1948. ولم يحدث أي تهجير قسري "ترانسفير" للفلسطينيين، فقد خرجوا تلقائياً أو هربوا بناء على دعوة صريحة حتى يتسنى للجيوش العربية الإجهاز على الدولة الصهيونية الوليدة، المحاصرة من كل جانب، أي أنه تم إسقاط البطولة تماماً عن الفلسطينيين وخلعها على الصهاينة.
ومن أهم المؤرخين الجدد البروفيسور "آفي شاليم" وهو أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد، ومحرر كتاب "الحرب من أجل فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948". ومن أهم مؤلفاته: "الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي" و"الصدام عبر الأردن: الملك عبدالله، الحركة الصهيونية، وتقسيم فلسطين". "آفي"ولد في شاليم 1945 لأسرة عراقية يهودية ثرية، ولكنه نشأ في إسرائيل، وأدى الخدمة العسكرية هناك من 1964 حتى 1966.
وقد ألقى البروفيسور "آفي شاليم" محاضرة بعنوان "حرب المؤرخين الإسرائيليين" في مركز التبادل الثقافي التابع لمركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة "جورج تاون"، أوضح فيها أن استخدام "الأساطير التي تحكي عن الماضي يعد وسيلة فعالة في رسم هوية الأمم، ولذا فإن كافة الأمم لها أساطير سردية". كذلك تناول ثلاثة اتجاهات عامة للتأريخ تلازم ظهورها مع قيام دولة إسرائيل: سرد النكبة الفلسطينية، سرد الاتجاه العام لما يسمى بحرب التحرير الصهيونية، وأخيراً السرد المرتبط بما يسمى "التاريخ الجديد".
يصف "شاليم" الرؤية الصهيونية للأحداث التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل والتطورات التي أعقبت قيامها 1948 بأنها "تنطوي على قدر كبير من التبسيط والاختزال والانتقائية والتمركز حول الذات". وهو يرى أن "المؤرخين الجدد" أو المؤرخين الإسرائيليين الذين يعكفون على مراجعة الأحداث التاريخية، يعملون في اتجاه مغاير، وهو معالجة واقع الأحداث التاريخية من خلال فحص وثائق الدولة الإسرائيلية.
وفي حين يهتم السرد التاريخي الفلسطيني بالتنكيل الذي يلقاه الفلسطينيون على يد المحتل الصهيوني، تماماً مثلما يهتم الاتجاه السائد في السرد التاريخي الصهيوني بأساطير اضطهاد اليهود في أوروبا وفلسطين، نجد أن منهج حركة "التاريخ الجديد" يتوافق مع الرؤية الفلسطينية التي تؤمن بأن "التاريخ هو... بروباجندا المنتصر".
لاحظ "شاليم" رغم ذلك، أن مجال التاريخ الجديد ليس مماثلاً لمجال السرد التاريخي الفلسطيني. فالتاريخ الجديد، من منظور "شاليم"، هو رد فعل للاتجاه السردي الصهيوني السائد، والذي ظل يتمتع بمصداقية كبيرة لفترة ليست قصيرة. ويصف "شاليم" عام 1988، الذي شهد صدور كتاب "سمحاً فلابان": "ولادة إسرائيل: الأساطير والحقائق"، وكتاب بني موريس مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947- 1948، وكتاب "إيلان بابي": بريطانيا والصراع العربي- الإسرائيلي 1948-1950، بالإضافة إلى كتاب "شاليم" الصدام عبر الأردن، بأنه عام دخول "التاريخ الجديد" إلى حقل التاريخ الفلسطيني- الإسرائيلي. ورغم أن سرد "المؤرخين الجدد" لم يكن جديداً كلية، نظراً لكونهم أصواتاً منشقة عن الجماعة الصهيونية خلال القرن التاسع عشر، جاءت أعمالهم معارضة، بشكل ملحوظ، للقراءة السائدة للتاريخ (الصهيوني) الإسرائيلي. ويرى "شاليم" أن دراسة القراءات النقدية للتاريخ الإسرائيلي قد تحققت فقط عندما ظهرت الوثائق الرسمية وعندما تغير المناخ السياسي الإسرائيلي بصورة جوهرية بعد غزو لبنان واحتلاله عام 1982 الذي قاده شارون.
ويصف "شاليم" غزو لبنان عام 1982، والذي بلغ ذروته في مذابح شارون في صابرا وشاتيلا، بأنه "خط فاصل"، لأنه كان مختلفاً، بعكس الحروب السابقة التي كانت -من منظور الاتجاه السائد للسرد الصهيوني- حروباً لا خيار فيها آين بريرا ain brerra. ووصف موافقة رئيس الوزراء "مناحيم بيغن" بأنها مثل المغامرة الفرنسية- الإنجليزية-الإسرائيلية إلى سيناء عام 1956، أي أن غزو لبنان كان حرب اختيار، وهي "حركة غير مسبوقة في تاريخ الحركة الصهيونية".
ويؤكد "شاليم" أن الخلاف المتعلق بشرعية حرب إسرائيل الأولى على لبنان قد خلق "المساحة النقدية" اللازمة لازدهار حركة "التاريخ الجديد". ورغم توافر هذه المساحة النقدية، كان مؤيدو التيار السائد للتأريخ الرسمي في إسرائيل يكرهون أي اعتداء على "البقر المقدس" كما يقول شاليم. وليس بمستغرب أن يتهم المعارضون حركة "المؤرخين الجدد" بأنهم يدينون إسرائيل بـ"الخطيئة الأولى"، واستندوا في اتهامهم على توجيه انتقادين أساسيين: أولاً، اعتماد عملهم الأكاديمي على الأدلة الناقصة وعدم الكفاءة المهنية. وثانياً، التأكيد على أن التاريخ الذي أنتجه أولئك المؤرخون كان منحازاً للفلسطينيين وذا دوافع سياسية.
يقول "شاليم" إنه كانت لدى التيار "اليميني" الصهيوني وجهة نظر واقعية تتميز بأنها أكثر براجماتية عنها أخلاقية. ويعزو "شاليم" الجدل السائد بين "التيار الرئيسي" و"المؤرخين الجدد" إلى عدة أمور منها: 1- السياسة البريطانية تجاه تأسيس إسرائيل. 2- التوازن العسكري بين إسرائيل والبلدان المجاورة لها. 3- سبب الهجرة الجماعية للفلسطينيين. 4- أهداف حروب البلدان العربية. 5- استمرار التأزم السياسي بعد حرب 1948. ولقد لاحظ "شاليم" أن السرد التقليدي الإسرائيلي يؤكد أن بريطانيا كانت ضد قيام دولة إسرائيل، حيث كان التوازن العسكري لصالح العرب، إلى درجة أن الهجرة الجماعية الفلسطينية تسبب فيها نداء القادة العرب في البلدان الأخرى، بأن الدول العربية تنوي أن تلقي بجميع اليهود في البحر. وأخيراً، لم تكن البلدان العربية راغبة في إقامة السلام بعد حرب 1948. وسمى "شاليم" هذا السرد "الحمل بلا دنس"Immaculate conception.
يشكك "المؤرخون الجدد" من أمثال "شاليم" في هذا السرد، حيث تشير السجلات الإسرائيلية إلى ما يلي: 1- بريطانيا قد انحازت لصالح قيام الدولة الصهيونية. 2- إسرائيل كانت لديها قوات أكثر تفوقاً من كل البلدان العربية بأسرها. 3- القوات الإسرائيلية تسببت في الهجرة الجماعية للفلسطينيين. 4- البلدان العربية حددت أهداف فترة الحرب بأنها في الأساس تأمين الأراضي التي منحتها الأمم المتحدة للفلسطينيين. 5- إسرائيل استمرت في رفض التفاوض مع الدول العربية لضمان اتفاقيه للسلام.
اعتبر "بن غوريون" "الثمن باهظاً" لإبرام اتفاقية سلام بعد حرب 1948. وبعبارة أخري، كان أول رئيس لوزراء البلاد يرغب في إبرام اتفاقية سلام على أساس الحفاظ على الوضع القائم -أي دون تعديل الحدود (التخلي عن بعض الأراضي) أو قبول عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ما أصبح يسمى إسرائيل. يقول "شاليم" إن كون بن غوريون لديه خيار لا يعد الآن مجال جدال". والأكثر من ذلك أن تلك المعلومات متوفرة للجمهور الإسرائيلي وليس فقط لـ"حفنة من الباحثين". ويرى "شاليم" أن بن غوريون سلك طريق خصمه "زئيف جابوتنسكي"، لفترة من الوقت. وكما يرى "جابوتنسكي" أن "القوة هي الطريقة الوحيدة لتحقيق المشروع الصهيوني بشكل أحادي". وعلى رغم ذلك، يقول "شاليم"، كانت خطة "جابوتنسكي" تتألف من مرحلتين: وعي العرب بعدم استطاعتهم هزيمة إسرائيل، ثم يستتبع ذلك مباشرة الدخول في المفاوضات. هذا هو مخطط "الجدار الحديدي" الذي يفترض أن "تاريخ دولة إسرائيل هو إقرار شرعية الجدار الحديدي". ولقد حدد "شاليم" عدة آثار لحركة "التاريخ الجديد" منها: 1- الحث على التعليم النقدي في إسرائيل، 2- إتاحة الفرصة للإسرائيليين العاديين لفهم الموقف العربي- الفلسطيني، 3- منح العرب ميزة موضوعية بخصوص تاريخ الصراع (خاصة وأن أغلب السجلات العربية ليست متاحة للبحث)، 4- خلق دافع للمؤرخين الرسميين الفلسطينيين لمساءلة السرد. والله أعلم.
* صحيفة الاتحاد الإماراتية 17/2/2007